أروعُ ما فيكِ أنّكِ شاعرةٌ.. عبدالوهاب اسماعيل

تقولُ بشرى :

 

يا أيُّها البحرُ الذي كسرَ المعابرَ

هل نعودُ الى الحدودْ ..

نلقي بصخرةِ صبرِنا

عبر المدى ..

يا أيّها البحرُ اللّدودْ ..

ألقِ السلامَ عليَّ

واختصرِ الرّدى ..

 

رافقتُها ثلاثين عاماً .. وقد سبق اسمُها لقاءنا الأول بزمن ليس بالقصير .. كانت شاعرةً مبدعةً .. والنساءُ قليلاتٌ في ميدان الضوءِ والنّوءِ , ومازلن كذلك حتى الآن يحذَرْنَ الفروسيةَ والمغامرةَ الشجاعة .. فكيف إذا كانت المغامرةُ في ميدان يهابُه الرجالُ الشجعانُ أحياناً …

 كانت شُجاعةً التقيتُها في غبار القرى ,  نخلطُ العصرَ بالمغرب ونروِّضُ منتصفَ الظلامِ قبلَ أن يرمينا عائدينَ – على أبواب بيوتنا – من معمعة الثقافة الجماهيرية وقعقعةِ ندواتِها وحملاتها الإعلامية شرقاً وغرباً ..

كانت فتاةً واثقةً من روحها الوثّابةِ ومن صدق عزيمتِها وعزيمة زملائها الصادقين مع أنفسهم ومع ناسهم , لا يبحثون عن مَغنَمٍ ولا يصيبُهم مَغرمٌ , لأنّهم جمعوا أرواحَهم باقاتٍ من العطر النازف الذي يضيء خفايا الكون بالألفةِ والمحبة.

 

    لم نترك قريةً دون أن ننثُرَ على ليلِها عبَقَنا , ولم نترك أُمسيةً دون أن نحاورَ مَنْ فيها وما فيها , ولم نترك معرضاً دون أن نتحَلَّقَ حوله ونناقشَ مبدِعَهُ والقائمَ عليه , ولم نترك أديباً حلَّ وآخرَ غادرَ ساحتَهُ أو ملَّ , دون أن نسمعَ منه ونسمِعَهُ البشرى , من بشرى ومَنْ معها ( أولئك الشبّان الرجال الشيوخ البراعم الذين كانوا يومها يطاولون المحال ).

 ولم يقتصر الحال على هذا الحال .. أليست الصحافة وجهاً آخر للإبداع .؟.. لقد كنتِ معي يا بشرى رفيقةَ كدٍّ وتعبٍ وجهادٍ في مجلة الجامعة إذ كنا زملاء في هيئة تحرير المجلة يوم تمثل فيها أدباء الموصل لفترة طويلة ، لم تكن صحبتي معكِ في الصحافةِ مقتصرةً على مجلة الجامعة فقط , بل كنا زملاءَ في هيئة تحرير جريدة الحدباء الموصلية – الصحيفة الوحيدة التي استمرت ربع قرنٍ بالتمام – قبل أن تغلق بابها يد الصمت  .. تكتبين الشعرَ والنثر والنقد والمقالَ ,  ونتبادلُ الصفحات طياً ونشراً , وما كان في حسباننا أننا كنا نكتب تاريخاً لمدينة عبقرية عظيمة هي الموصل ولوطنٍ عبقريٍّ هو العراق .. ونحفر صورة حقبةٍ زمنية مهمةٍ من حقب تاريخِ الأمةِ  الحافل بكلِّ تحدٍّ وعطاء .

 

 كنّا ومعنا بقيةُ  أعضاء هيئة التحرير السبعة , نعيشُ تفاصيلَ عمرنا كلَّ يومٍ , ندوِّنُه على صفحات الجريدة حتى وافتنا نهايتُها ووفَّينا معها عهدَنا الصادقَ الرحيم .

 وكنتِ كما أنتِ كبيرةً وأثيرةً دائما … أثيرةً لدينا بالصدق وقوةِ الحضور ونضجِ العطاء . وأثيرةً بالوفاء , نقرأ لكِ هنا وهناك مطولاتٍ وشذراتٍ .. وهنا وهناك لا تعني هوامش الأمكنة والأزمنة , بل نعني بها صدور المجالس العالية وحضورَ النفائس الغالية يا بشرى .

كنتِ كلَّ الحضورِ بتفاصيلهِ وميادينهِ , لكنَّ أروع ما فيكِ أنَّكِ شاعرةٌ قبلَ وبعدَ أن تكوني إعلاميةً وصحفيةً وأستاذةً جامعيةً وإلى آخر المسمياتِ .. شاعرةٌ حقيقيةٌ تأسرنا بصوتها الشعري الرائع وقاموسها الثري وريادتها الفنيةِ صورةً وتجربةً وحسّاً فريداً متميزاً .. لقد قرأتُكِ بأشكال متعددةٍ وعلى يديكِ عرفتُ معنى تعدد القراءاتِ كما يقول النقاد . وإذا كنتُ في قراءتي قد أخذتُ نمطاً واحداً ورؤيا يقينيةً خاصةً بي , فقد خالفني غيري وخالفه غيرُه وكنتِ أنتِ البشرى التي تنامُ عيونُكِ عن شواردِها ويسهر الخلقُ جرَّاها ويختصمُ …

أيّتُها المبدعة الواعية الكبيرة .. الزاهدة بالأضواء لقد بصمتِ بصمتَكِ الواضحةَ في ساحة شعرنا , وستمرُّ الأيامُ وتعدو السنون وينتبه اللاحقون أكثر من انتباه أبناءِ جيلِكِ إلى آثارِكِ الجميلةِ .. وستعودين معهم إلى ندواتهم وحملاتهم الإعلامية وشهاداتهم الجامعية والمدرسية , تطرقينَ كتبَهم ودفاترَهم وأبوابَهم ونوافذَهم ضيفاً عزيزاً , وطيفاً باسماً يداعبُ أحلامَهم قبل أن يخلدوا إلى الأحلام كما أنتِ يوم كنتِ تعودين متربةً متعبةً وأنتِ تنشئين هذا الاسم الأصيل والصرح الأدبيَّ الباذخ ، الجميل الأثر والمبهج للسمع والنظر .. فبشراك يا بشرى .بشراكِ وأنتِ تقولين :

 

هذا .. نداؤكَ شمعةٌ

لا تنطفي في القلب

رغم الريحِ  

رغم أصابع الغيلانِ ..

يشهد فجرُكَ المصلوبُ

بين قبائل جفّتْ غنائمُها

وعافتها القوافلْ ..  

يا أيُّها الوردُ العراقيّ المكابرْ …

أشرقْ فهذا الليل كافرْ ..

أشرق فهذا الصد كافرْ ..

أضف تعليق