بشرى البستاني ومن سواها؟!.. د. وليد الصراف

قبل أن ابدأ شهادتي أسألكم انتم المخضرمين الذين شهدتم مثلي الكثير من القرن العشرين و تدخلون الآن راغبين و كارهين القرن الحادي و العشرين أسألكم كم شاعرة موصلية تعرفون ؟

اشهد و تشهدون معي لابد ، أن سبورة ذاكرتنا لم تكتب شاعرة اسمها عليها سواها ، كتبته بجد وألق… بشرى البستاني .

ربما حاولت فلانة أو فلانة ولكنهن كن عابرات كزورق مرّ مرورا عابرا في دجلة ثم تلاشى في الأفق .

     أعليّ كي امتدح بشرى البستاني أن أجفوَ الموصل ؟ هذه المدينة التي يتوقف عندها دجلة دائما في سفره الدائم و يختصها بأفق مستورد لها خصيصا من الجنة و شفق لا يتآخى النور و الظلام الا لديه و يطرز فساتينها بالعشب و الأزهار مع ذلك تدير ظهرها له و تنام . و في نومها تنهمك في التجارة و الصناعة و الزراعة و الحساب و النوم و الصحو و يتكاثر أبناؤها و يموتون دون ان تخطر لهم دجلة على بال . إنهم يجعلون من شطآنها مرآب للسيارات . فكيف تطلع من هذه المدينة القاسية ، هذه المدينة الصحراء التي تريد أن ( تتبستن ) زهرة اسمها بشرى البستاني؟

في سجن الحاضر الأبدي لدينا شباك يطل على الماضي اسمه الذاكرة أحدق منه فأرى ملامح صورة توشك أن تتلاشى .. من بعيد الأيام أرى طفلا صغيرا يحفظ شعرا ، و شابة في مقتبل العمر تكتب الشعر و تعرف انه سيصدر ديوانا .. في غرفة في معهد المعلمين قبل أكثر من ثلاثين عاما .

الطفل هو أنا و الشابة هي بشرى البستاني اقرأ لها قصيدة لابن الرومي ربما فتفاجأ ان طفلا  يحفظ شعرا كهذا و تكافئه بان تكتب له مقطعا من شعرها في دفتره الصغير ..

من شباك الذاكرة أحاول أن اقرأ ما في هذا الدفتر الذي ضاع في زحام الأيام و الأوراق فلا أتبين سوى :

وأنا أزرع في شرفة قلبي ،

وجهك الغائم ، أرويه بحبي …

آه من يرحم عينيك قلبي ..

آه من يرحم قلبي ..!!

لعلها الآن تطل من شباك ذاكرتها فلا ترى هذا المشهد الذي تمسّكَ بحقه في اللجوء إلى ذاكرتي من النسيان و اختبأ في طياتها من الانقراض .. و تمضي في الأيام هذه المبدعة الرقيقة التي حين وجدت الأغنية وجدت السكين معها و حين أزهرت حدائقها و عانق الفل فيها ريحانا أحاطت بها الأسوار ، هذه الشاعرة التي شفتاها أغلى من دمع أبي فراس الحمداني فلم تمنح قبلتها إلا لكفّ العراق ، و لم تمشط سوى شعر العراق ، هذه الشاعرة التي عرفت ما بعد الحزن و هي في مرحلة ما قبل الشباب  منذ اكتشفت أن الرياح تجري كما يشتهي القتلة ..

و ظلت تغني برومانسية جريحة وواقعية مرة ، تغني بشباب دائم على وتر التفعيلة شأنها شأن جيلها الذي وجد في العمودي ما يؤدي الى التفعيلة و لم يجد في قصيدة النثر ما تؤدي إليه التفعيلة وقد كان لها في قصيدة النثر شأن مبكر في أسوارها ..

في قاموسها الشعري تجد الغزلان الذبيحة و الفلوات و الورد و الفرح و الواحة و كل ما في عالم الأنثى من أسرار و تجد البحر الذي يصطاد الضفاف كما تصطاد الضفاف لدينا دجلة ..

    عندما نتحدث عن بشرى البستاني تتداخل الأزمان فيدخل الماضي في الحاضر و يتوقف المستقبل ليمر الماضي و تحط العصافير قادمة من المجهول على شباك الذاكرة .

و تمضي الأيام .. تمضي علينا أكثر مما تمضي بنا ، و أوقف الآن موكب الأيام لأنظر من شباك ذاكرتي الذي ترميه الآن يد ما بالحصى فتطير العصافير التي حطت عليه باتجاهكم …

و انظر إلى غرفة كنت أكتب فيها  كلماتي وحيدا ، وطريق أسير فيه حتى أصل إلى جريدة الحدباء لأدخل غرفة أخرى .

في جريدة الحدباء حيث تكون بشرى هناك و معها آخرون ، و اذكر هذه العائلة جيدا كبيرها محي الدين توفيق وبقية  أفرادها بشرى البستاني وعبد الوهاب إسماعيل و ذنون الأطرقجي و عبد الغفور و سالم حسين ومحمود المحروق و آخرون …

هذه العائلة التي نقتحم عليها اجتماعها كل ثلاثاء …

أين تلك الثلاثاء ؟ و أين ذلك المشهد ؟

عبد الغفور و سالم حسين و المحروق تحت التراب الآن .. و محي و ذنون و عبد الوهاب انفصلوا كل إلى شأنه و لم يعد ثمة ما يجتمعون لأجله .. و بشرى بعيدة حيث الأكاديمية التي تحتفي بها شعرا ومعارف .. و أنا لم يعد يعنيني أن انشر و أن اقتحم  على احد غرفته ..

انفرط العقد و تسرب الزمن كما يتسرب ماء دجلة من الأصابع …

و لأنني لا استطيع أن افهم و لا أريد أن افهم لماذا يبلغ عمرنا من الوقاحة بحيث يتجاوز طفولتنا بل شبابنا .

و لماذا يبلغ زماننا من الوقاحة بحيث يشتت شملنا و يبدل أدوارنا و لما نكد نتعمقها بعد .

و لأنني مثل بشرى تماما – من الواقفين المدمنين على الأطلال و لدي هوية في النقابة التي أسسها امرؤ القيس منذ قرون طوال .. و لأنني مواطن في مدينة تقع بين الدخول فحومل احمل هويتها و أتكلم مفرداتها و أنقف حنظلها منذ كنت أحفظ لابن الرومي .. و لأنني واحد من الكورس الذي يردد وراء الجواهري

لغز الحياة و حيرة الألباب    أن يستحيل الفكر محض تراب

أنا أكره الموت اللئيم و طيفه    كرهي طيوف مخاتل نصاب

ذئب ترصدني و بين نيوبه        دم إخوتي و أقاربي و صحابي

و لأنني أحفظ جيدا ما قاله السياب الذي جعل من المطر أنشودة

و حين تقفر البيوت من بناتها ..

 وساكنيها من أغانينا  ومن رواتها

 نحس كيف يسحق الزمان اذ يدور

 ولأنني مثل بشرى تماما مهووس بالرحيل و لأنني نقلت خدمات دمعتي منذ زمن طويل من العين والخد إلى القلم و الورقة فأنني الآن أجهش بالكتابة و استميحكم العذر أن تكون شهادتي عنها مذبحة من الدموع ..

في مدينة لا تحترم المطر و لا تتعامل مع الماء إلا بمقدار ما يأتي لها بالقمح و الشعير..

أضف تعليق