الشطحات الأدبية و شعرية التصوف: د.وفاء عبداللطيف زين العابدين

 

 قراءة في مائدة بشرى البستان

تنبثق مقاطع قصيدة “مائدةُ الخمرِ تدور”  *الستة عشر للشاعرة بشرى البستاني من إرثٍ صوفي متوهِّج وتناصٍ قرآني مكثف وصور تخييلية محتدمة، وعبارات مثقلَة بالهموم تارةً وبالاملِ أُخرى، وشَجَنٍ يطولُ سجالُهُ وكل ذلك يأتي متواشجاً مع بعضِهِ متسقاً في منحوتةٍ متأتيةٍ من تشرُّب لنصوصٍ سابقة وهضمها وامتصاصها في بوتقةِ شعريةٍ متناغمة ومتشاكلة ونحتِ جُمَلٍ جديدةٍ مادَّتُها الثيما أو مجموعة الثيمات التي تقومُ عليها القصيدة  وأوَّلُها المهيمنة هي ثيما الانسان مطحونا برحى الحرب والاحتلال  منصبة في قالب من شعريتي التصوُّف والجسد.

إن أولَ مايلفتُ أنتباه القاري هو العنوان الذي يبدو غريباً بعض الشيء كونه يشي بحفلةِ خمرٍ ودوران رأس من حالة السكر والانتشاء، وهي حالة معروفة في التصوُّف أو في شَطَحاتهِ على وجهِ الدقة. وبتأمُّل تكرار عبارة المائدة تدور ومن ثُمّ ماياتي بعدها نجد الانفصال بينهما انفصالاً مبتعداً عن هذهِ البؤرة أو مقترباً واقعاً فيها اُخرى. لذا يقفزُ الى الذهن حادثة من حياةِ أمرؤ القيس المعروف بعلاقتهِ الجدلية مع ابيهِ ومن ثُمَّ مقتلهِ. فقد تلقى خبر مقتل أبيهِ وهو في مجلسِ سكر، وماأن سمع الخبر حتى قال قولَهُ الشهير :”اليومَ خمرٌ وغداً أمرُ”   

 

[1]. وكما في معظم قصائدها، تأخذُ الشاعرة النصَ القديم وتُصهرُهُ تماما في الحدَث المعاصر لتخرجَ بانفصالٍ تام عنه. وبالعودة الى تأريخانية القصيدة وسياقها فانها كُتبت في الفترة مابعيد الاحتلال الامريكي للعراق بما يخرجها اخراجا جديدايصعب احالته كليا الى الاصل لانه يتشكل في صميم تجربة فنية جديدة وشديدة اللوعة كونها تتجاوز كل القضايا الفردية ممتدة الى حياة شعوب كاملة  بناسها واطفالها ومنظوماتها الحضارية ،وربما تذهب الاشارة الى الانظمة والحكام الذين يتلقون كارثة احتلال العراق  وافغانستان واجتياحات فلسطين ولبنان الدائمة وهم على موائد النشوة، ومثل أمريء القيس كانوا يلجأون الى الاجنبي ويستعينونَ بهِ على حلِ مشاكلهم وتمر أيامُهم بانتظار مايُمليهِ عليهم، فأمرؤ القيس قضى نحبَهُ منتظراً معونة الملك الأعجمي الذي لايبالي بهِ فماكانَ نصيبه منه الا المماطلة والوعود الكاذبة حتى تقرَّحَ جسمُهُ ثمَّ ماتَ حسرةً وكمدا، هذا ماتتوعَّدُ به الشاعرة وهي ترى بعض الحكام العرب وهم يقفون مكتوفي الايدي لمايجري في العراق مستعينين بالاجنبي لتسليمِهِ  الارض ومستقبل الامة.

والخمرة في التصوُّف هي الاستغراق في حب الله حتى الثمالة  ، هي نشوة ازلية لانها وجدت بوجود المحبوب قبل ان يخلق الخمر وحسب إبن الفارض: ” شربنا على ذكر الحبيب مُدامةً \ سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم”. وشاربُ الخمر عند ابن عربي سكرانٌ حيران والخمرُ مُذهب للعقل وهي حالةٌ ضد الصحو عندها يشطحُ العقل[2]  الا أن الشاعرة هنا تنفصل عن تقليدية الشطح الصوفي إذ يكونُ الشطحُ الادبي عندها قمةً في الصحو والشطحُ جمالٌ كما سنرى.

“مائدةُ الخمرِ تدور”قصيدة صوفية بامتياز بشطحات تمتزج مع رؤيا جوليا كرستيفا لمفهوم “التقزز أو القُبح Abject ” وقد يبدو المزج بين الصوفي وهو النشاط الروحي بحالتهِ الشطحية وبين شعرية الجسد الذي يشمئز من القبح في طرفِهِ الآخر المعاكس للتقليدي الجمالي الفاتن وهو نظرية كرستيفا قيد التطبيق هنا، لكن في هذه المنطقة بالذات يكمنُ إبداع شاعرتنا الكبيرة بشرى البستاني وهي تولجُ الجمال في القُبح، وتولجُ الروح في الجسد واللذة  في الألم ، والتناص الجاهلي في القرآني، وسيرة حياة أمريء القيس في الحال العربي القائم: صراعٌ بين السلب والإيجاب، ولكن الإيجاب ينهض مع النهوض بالمعنويات والإرادات المتوقدة التي هي هم الشاعرة، بالرغم من أن القبح  يمتلكَ كلَ الأدوات والأسلحة كونهُ عالم جيفة في حربٍ ظالمةٍ غير متكافئة، مع هذا لايستسلم الجمال ولا تموت عوامل الإيجاب لان الفعلَ الشعري هو الحياة بايجابيتها وجمالها وروحها البدائية الطاهرة والنقية؛ ويبدو من تشكيلات الصور والمونتاج المتحول الذي كان يجري فيها أن العلاقات بين السلب والإيجاب سريالية رغم واقعيتها فان الشعر يأتي بألوانٍ وحركيةٍ صاعدة وهابطة في السرد الذي يعاضد الشعرية عبر كامرا خفية تتحرك في كل اتجاه مستعينة يكل الطاقات التي تعبر عن قبح الواقع بأدوات جمالية ؛ خلاصةُ القول أن الشناعة التي تلخصُ واقعنا الحاضر ولحظتنا التاريخية تشي بما يتبجَّسُ من الواقع المعيش والذي نظَّرت لهُ جوليا كرستيفا في كتابها: قوى الرعب: رسالة في تجربة القُبح:Powers [3]of Horror: An Essay on Abjection (1982) .

ووفقاً لنظرية كرستيفا فان تجربة القُبح تأتي باضمحلال العلاقة الطبيعية بين الفاعل والمفعول بهِ وبالانفصال الذي يحصل بين الاشياء ومسمياتها الطبيعية ومعانيها التقليدية المألوفة في عالمٍ مملوء بالجيف والتفسخ المادي والروحي والضياع، نتيجة لذلكَ يتولد مفهوم “القُبْح Abject” الناتج من تجربة رؤية الجيفة أو الدمار أو الجثة المتفسخة  Abjection”وهو رد الفعل الانساني على مثل هذه الحالة، وهذا الاحساس حسب نظرية كرستيفا يقع في فضاء خارج النظام الرمزي للاشياء. إن رؤية الجيفة Abject تُصعق الانسان وتُذكِّرُهُ بمادية الحياة ورُخصها وسرعةِ زوالها بل وقُبحها، فالجروح المفتوحة ورائحة الأجساد المحترقة أو أشلاء الجثث الانسانية المبعثرة أو المكدَّسة أمثلة كثيرة تُوردها جوليا كرستيفا في نظريتها عن القُبْح. إن ردَّة فعل الانسان تتسم بالاضطراب والانزعاج والرغبة بالتقهقر ثم الاحساس بالانسحاق والتوتر والاشمئزاز وبالتالي التقيؤ Jettison. فالعملية لدى الشاعر تبدأ بالتقبّل Interiorization ثُمّ  الامتصاص ثمَّ انفصال الجسد عن الروح وعندها يبدأ الهبوط نحو مهاوي الاشمئزاز وبالتالي ولوج الجيفة أو القبح muck, defilement في أعماق المعدة وتشنجها ومحاولة تمزيقِها في لحظة اشتراك الحواس الخمس وإجبارها القسري على استقبال الإشارات الشنيعة وانشطار الوعي وقذفِهِ في هوةِ الجيفة وانفصاله عن الله وعن البراءة وهي حالة تصفها كرستيفا بالموت الملوِّث للحياة Death infecting life لكن الإبداع ينهض ليخلص الجسد من بشاعة تلك الأحاسيس الجارحة بتفريغ المشاعر المؤذية التي استلم إشاراتها من الواقع الدموي إذ تنبري عوامل الإيجاب للدفاع عن الحياة ، وأدوات الشاعرة هنا في المقاومة الرافضة والضارية هي مقدرتها الإبداعية في التحويل لتخرج بعبارات تشكيلية وأشكال تركيبية كلامية تعيد بها صياغة واقع القبح بأدوات الفن الراقي، وهذا هو فعل تقيؤ الإبداع وهو عنف بكل معنى الكلمة violence إذ يأتي العمل على مقاومة  الصدمة والسمو فوقها وإعادة شتات الروح ولملمتها ومقاومة انفصالها عن الجسد ودحر تفرُّد القبح يهما وبكل مكوناتهما المجبرة على الاشتراك في استقبال فعل الشناعة وهنا في هذه اللحظة وهذا الفضاء تأتي بشرى البستاني لتقدِّمَ إبداعا إنسانيا مُقاوِماً  لا يرتبط ارتباطا مباشرا بمكان ما أو زمان بعينه لان قضيتها اليوم هي قضية الإنسان المضطهد في كل زمان ومكان وهي تُراوِغُ القبحَ وما حوله وتحاول نفيه ودحر اسبابه بفضح تلك الأسباب ما استطاعت لذلك سبيلاً   to extricate the body  ، و فعل تقيوء الابداع نواة نظرية القبح عند كرستيفا الذي يأتي بالقصيدة كرد فعلٍ ناري على قُبح الفكرة المعيشة ومنها الحرب وويلاتها وتباريحها ومكابداتها. فالحرب كفكرة “قبحAbject” تتوسلُ طريقة لطرحَها خارجَ الجسد تفريغاً يأتي بشكل ابداع أو لحظة شبيهةٍ بلحظة الوجد عند المتصوفة من حيث عُنفها وإنفعالها وبالتالي اشتطاطها وشطحها. وهنا يمكن المزج بين اللحظتين(الابداع والقبح) رغم هوة الخلاف والاختلاف بينهما ، انما تطابقهما يكمنُ في قوة اللحظة الوجدية وعنف الانفعال من القبح وان كان الاول روحيا وان انفعل به الجسد والثاني جسديا وان سبب للروح أذى ، لكنهما يلتقيان أيضاً بعدم القدرة على حبسهما والانفلات من وطأتهما للانطلاق نحو التفريغ بالكتابة والابداع ويستحيل القبح الى خلفية والشطحة الى عمقٍ سحيق ليكوّنا البنائية الشعرية للقصيدة.

   وسنعمل الآن على تعريف الشطح باختصار، فالشطح هو حركة وهو عبارة مستغربة في وصف وجدٍ فاض بقوتهِ وهو يُشبه الماء الطافح الذي إن سرى في مجرى ضيق فاض من حافتيهِ[4]. كما أن الشطحَ سر الصوفي الذي لامفرَّ منهُ ولايكون الا باذاعتهِ، ومن شروطها شدة الوجد[5] . والوجد “مايكونُ عند ذِكرِ مزعج، أو خوفٍ مُقلق، أو توبيخ على زلة، أو اشارة الى فائدة، أو شوق الى غائب، أو أسف على فائت، أو ندم على ماضٍ، أو استجلاب الى حالٍ…”[6]، إذن فهي لحظة عنف تعمل عملها الذي يحفرُ في النفسِ مكانَه وتتوسلُ الاعلان لتفريغها بشكلِ ابداع. وكما يقول يوسف اليوسف أن اللغة تضيقُ بالفعل في تحقيقهِ وعلى رأي النفَّريّ “كلما إتسعَت الرؤيةا ضاقت العبارة”[7] والمهم أن ترى لا أن تعرف ونظرية كرستيفا تؤكِّدُ على الرؤية لا على المعرفة.

في عبارات بشرى البستاني تسم الأشياء بصفات التشخيص أو إسباغ صفات وأفعال إنسانية على ما ليس بانساني  anthropomorphism   وكأنها تجاهد من اجل مقاومة مشروع الابادة الجمعي بمشروع مضاد هوتخصيب الحياة وتوليدها وتنمية عوامل الايجاب والفاعلية  فيها ، وكل ذلك يقع ضمن رمزية الدلالات وليس تجسُّدِها الفعلي. إذن التصوُّف  والشعرية هما عالمٌ من الجمال الرمزي التخييلي والقبحُ عالم الواقع الحسي الشنيع. والصوفية التي تتميز بها الشاعرة تتمثل بالتوحد بمن وما تحب، انها تتوحد بالاشياء  وبالناس والطبيعة باشجارها وانهارها ووردها وبحارها والارض وما فيها ، وكل ذلكَ يقع ضمن رمزية الدلالات وليس تجسُّدِها الفعلي. إذن التصوُّف عالمٌ من الجمال الرمزي التخييلي والقبحُ عالم الواقع الحسي الشنيع. والصوفية التي تتميز بها الشاعرة تتمثل بالاتحاد بالاشياء حتى تصير لسان حالهم وتستنطقُهم وتُملي عليهم مخاطبات وتضعهم في أجواء لاتُعَرفُ لهم تقليدياً وتُسقطُ عليهم آلامَها وأحزانَها وتضعهم في خندق المقاومة حيثُ هي، وهي بذلك تكونُ منهم وفيهم، تستغرقُ بهم وينوبونَ عنها وعن بني آدم في كثيرٍ من السلوكيات بل أنها تُدخلُهم في تجربتها الصوفية فتقفزُ فوق شخصانيتها وتوحدِها لتُصبحَ التجربة جماعية كلية وهذا يُفسِّرُ أيضاً قلة البشر في قصائدها بل وغيابهم أحياناً. فمثلاً في الاجواء الحربية يَكثرُ القُبح وعبارات السلب والاضطراب حيث يتجسد الالم النفسي في الاشياء وسلوكياتها ومشاركتها مع الذات الشاعرة في لحظة الكبْد التي تفرِغُ فيها العنف الذي يجتاحُها  بانثيال الافعال والصفات: “يمحو”، “وجع”، “ماتَ مقتولا”ً، “تبتلعُ”، “الزَبَدُ”، ا”لطاعِنِ بالصد”ّ، وتكون النتيجة المريرة منصبة على الإنسان الذي تمثله أنا الذات الشاعرة : “ينفَرِط العِقد”، “أهوي نحوَ القاع” ،وكلُّها أفعال ناتجة عن تجربة القبح الذي تتقيؤهُ الاجساد الانسانية تخلُّصاَ منهُAbjection:

ـ مائدة الخمر تدور

يمحو اللؤلؤ ما سطره الياقوت على الأغصان

لا أستثني وجع السمك القابعِ

في كهف البرق الأخضر

مات السمك الأخضر مقتولاً في ثقب الإبرة ،

قال الليلكُ :

ثقب الإبرة أوسع من بحرٍ

تبتلع الحُمى مرساهُ

وتأخذه نحو ذراع الزبد الطاعن بالصدْ

ينفرط العقدُ ،

وأهوي نحو القاع.

في هذا المقطع تكون حركية الاشياء في الذات الشاعرة ومصاحبة لها واسقاطاً للحركية النفسية والفكرية والشعورية لديها والتي تشي بجوهر العلاقات فيما بينها، وباستعراضها نجد أن الأشياء: اللؤلؤ، الياقوت، الأغصان، السمك، كهف، البرق الأخضر، ثقب الإبرة، الليلك، الحمى، المرسى، الزبد، العقد، والقاع يعمل كل منها على معاكسة الآخر ومعاداته وعرقلة انطلاقِه بل وسجنه لانها في اضطرابٍ شديد يؤدي إلى توقف الذات الشاعرة  وسكونها بدل سفرها الصوفي في فضائهِ البعيد عن القُبح وهذهِ الرؤيا التأملية لحركة الأشياء تمنحُها قوةُ الحضور وعمق الفهم الشامل لكل ماحولها.

في القصيدةِ ست عشرة مائدة تتشكل جميعاً من دلالة المضاف الثابتة مع دلالة المضاف اليهِ المتغيرة، من بينها أربعةُ موائد للخمر، ثلاث للحرب، ثلاث للصبر، إثنتان للوجد، إثنتان للحب، واحدة للمسك، وواحدة للموت لكن البداية للخمر والنهاية للصبر. ومن خلال تشكيل تقابلي للمفردات التي اضيفت الى المائدة الثابتة لفظا والمتغيرة دلالة بتغير المضاف اليه نجدنا امام متوالية دلالية ثرية اذ تتحدالحرب مع الموت بينما يتآزر الحب مع الوجد والخمرة والمسك ليتبادل الصبر جدليته بين الحرب والموت ،ثم يعود الجميع ليتداخل في علاقات وشائجية وهنا تنفصلُ دلالة المائدة تماماً عن مقابلها القرآني كما أن تكرار المائدة يحيل على الدوران والدوخة والانتشاء الثمل في الشطحة الصوفية إضافة الى شكلها المستديرالذي  يذكِّرُ بمائدة القادة المستديرة Round Table، وهنا أيضاً انفصال آخر عن ذلكَ كون  الخمرة تتبادل المواقع مع دلالات المضاف اليهِ الآخرى. وهنا أتوقف عند الحركة الدائرية التي تنساب نحوها القصيدة بحركةٍ حلزونية تشي بصوفية المولوية التركية نسبةً الى مولانا جلال الدين الرومي  التي تسمَّى “السماع” أو رقصة التنورة والتي تساوي بين جمالية الرقص اللولبي والانشاد الروحي الديني والموسيقى الايقاعية؛ والنشوة تتجسد في تضافر هذهِ العناصر وبالتالي الفناء وهي “المقابلة” بين النفس والروح الالهي أو المُطلق أو ما يُعرَف بالتجلِّي. ولايخفى على المهتمين أن المولوية أسسها الرومي بعد فقدانهِ لشيخهِ التبريزي وعبَّر فيها عن الحزن على فراقِهِ ووجدهِ. وليس غريباً على مدينة الموصل اشتهارها بالمواليد النبوية والفرق المعروفة تاريخياً فيها. كما أنهُ ليس من المبالغة القولَ أن الرقصَ في شعر بشرى البستاني وماأكثرهُ يقع ضمن هذا النوع من النشاط الروحي لتفريغ الالم بل إنهُ وسيلة أبداعية أخرى لمراوغة الاحزان والمكابدات وتفريغ القبحُ بالغناء والبكاء والرقص وبالتالي النسيان ثم الفناء والسمو. والرقص بحد ذاتهِ نص ابداعي ذو دلالات رمزية انه الفن الذي يملأ الفضاء بالحركية التي تنحاز لها الشاعرة ويصل ارضها بالسماء حيث تسمو الروح في خلاص من قيود الواقع وقبحه. ولايبقى في نهاية المطاف سوى حالة النقاء الذي يُشرِبُ في القلوب حبَّ الله والنشوة الروحية ،إذ يدخل الرقص في نصوصها ضمن تداخل الاجناس وتراسلها ، ذلك التداخل الذي أثرى القصيدة الحديثة ووسع آفاقها وأنقذها من الأحادية لاسيما وان القصيدة صارت مشهدا يتداخل فيه اكثر من فن وجنس ونوع كالسرد والرسم والمونتاج والكولاج والسيناريو وغيرها.

في المقطعين الثاني والخامس “مائدة الوجد تدور” حيثُ  اللغةُ الصوفية مشلولة متشنجة على رأي كرستيفا موغلة بصور الاحباط وفشل التجربة الصوفية وبدَل الانتشاء والولادة والوصول الذي يحكي عنهُ المتصوفة، هنا الذات الشاعرة تصل الى الانتحار وبأغصان الرمان وهي دلالة الخصوبة والشباب التي تفقد رمزيتها التقليدية لتُصبحَ وسيلة للموت في شطحةٍ مفاجئةٍ داهشة:

 ” تدنو الاغصانُ، , وتشرب وجدي..

                 ألهثُ خلفَ أصابعها

                         ويجفُ دمي”

وفي المقطع الآخر:

 “وأفعلُ مالم تفعلْ حوَّاءُ

 أشدُّ بأغصانِ الرمانْ

 عنقي…. ثمَّ أموت”.

 تتوفر في هذين المقطعين كل أدوات التجربة الصوفية “الغزلان”، “الكلمات”، “الصمت”، “القراءة”، “خرائط” يرسمُها المتصوف المرتحل، لكن القُبحَ المتمثل بالحرب يُحوِّلها الى أدوات موت وإنفصال.

وكحال ليلنا أيام الحرب هو ليلُ النص اذ تشيع في مقاطع القصيدة الخاصة بمائدة الحرب مفردات الليل والظلام والتيه والشتات والقبحُ والارتباك إنهُ ليلٌ لايطلعُ لهُ صبحٌ، ليلٌ “لغدٍ لايجيء” ليلٌ طويلٌ مملوء بالوجع والصد والقتل والحُمى والطعن ودموعُ النساء، “ليلةٌ آفلة”، “إفكِ ليل الشتات”، “برد المساء” وتقول: “الصواريخُ مفتونةٌ بالليالي\ترشُّ رذاذَ الخرابِ على الشُرَفِ الواجفة”، وأتوقفُ هنا عند بؤرة “إفكِ ليل الشَتات” والإفك لفظة قرآنية إرتبطت بالافك المحاك ضد السيدة عائشة زوج النبي عليهِ الصلاةُ والسلام، وهنا تُصهر الشاعرة هذا الافكَ العظيم كما يسميهِ الحق تعالى في كتابهِ العزيز من سورة النور (أية 11 ) ، وتربطهُ بالافكِ المحاك ضد العراق بخصوص أسلحة الدمار الشامل والعلاقة بالقاعدة وغيرها تلك الاكاذيب التي ضحكوا بها على الذقون لتسويق الحرب على العراق، وتشريد شعبهِ نحو الشتات انتقاماً لشتات اليهود بالسبي البابلي الاول والثاني. وفي خضمِّ إصرار الذات الشاعرة على الرحلة الصوفية فانها تتمرَّد مُعلنةً إنتصارَها على كل عوامل السلب والاستلاب في أوج الحرب وقُبحها قائلةً:

ـ مائدة الحرب تدورُ

أشق عصا الموت ِ

وأفتح نافذة للغزلان ِ

السمك الأخضر يعدو في الفلواتْ

يبتلع الأوثانَ

يبدل خارطة الألوان ِ

ويرسم أخرى تنفر من أنملةِ الريشةِ

تهوي في قاع اللوحةِ

تربكها

وتكسِّر ما خطته الأطرُ الغبراء ْ.

الآن تنقلبُ الاشياء التي ركِبَها السلب في المقاطع السابقة على الذات وعلى القبح ويبدأ ذلكَ بالذات الشاعرة التي تشقُ عصا الطاعة وتدعو الغزلان للدخول في مقاومَةِ للقبح؛ والغزلان في الصوفية رمزٌ لجمال الخلق وهي شموسُهُ وقناديله وأنوارُهُ وربيعه فالشاعرة اذن تفتح النوافذ للنور الذي توقن بقدومه، امّا السمكُ الاخضرالذي مات مقتولاً في المقطع الاول من القصيدة فانهُ يخرجُ من سباتهِ ليصبحَ رمزاً للثوار المقاومين الذين ينتشرون على طول خارطة الوطن يجمعهم هدف واحد هو تحطيم الاوثان التي اتى بها المحتل ليغيرَ خارطةَ الانسان والجغرافية وتأريخ القيم بخرائط “الشرق الاوسط الجديد” التي رسمها ، ليرسموا بدَلها خرائط الوحدة بعد تدمير مشروع الاجنبي المشبوه ، خرائط المقاومين صنعتها الغزلان والسمكُ الاخضر وخرائط المحتل هي التي تسقطُ الآن وتبطل. ولعل الوقوف على دلالة السمك ضروري هنا لانه من بين الصور أو الاشياء التي تتكرر في النص وتحولاتها تجسدُ التحولات المتنوعة في القصيدة.

فالسمك رمز غني وقديم في حياة كل الشعوب على وجهِ الارض. فهو رمز للماء حيثُ يعيش والماء رمز للخصوبةِ والحياة ودورتها والانقاذ من الهلاك غرقاً ولاننسى حوت النبي يونس عليهِ السلام، وفي الميثلوجيا المسيحية السمك رمز للمسيح والسمك الذي يوجِّه الكنيسة وللمسيحي المعمَّد، وفي الحضارة البابلية تظهر الاسماك منقوشة على الاسطوانات، وفي حضارة وادي النيل هي مخلوقات غامضة وصامتة وذات برق أخضر يتلالأُ من أعماق النيل لكنها تبرق بحسن الحظ والحماية القادمة من الآلهة كما أنها رمزٌ للكثرة كونها تضعُ عدداً لايحصى من البيوض كما أن الحلمَ بأكل السمك مجلبةً للحظ[8]، ومن هنا تبرز إمكانية ارتباطها بالشباب المقاوم من المحيط الى الخليج عدداً وتكاثُراً وخلوداً، ،وتكرسه رمزا حضاريا وجماليا نورانيا وصوفيا اشارة للأمن المفتقد وللسلام الغائب ، ويومض حضوره بالأمل والتفاؤل بالغد كيدا بكل العذابات الحاضرة.

    لكن الصبرَ والمُطاولة ملازمان للمقاومة وأحد صورها، الصبر على القبح بكل صورِه ياتي بثمرهِ وروداً تطلعُ في الصحراء:

ـ مائدة الصبر تدورْ

مجدافٌ صدئٌ

بحرٌ تشربه الأسماكُ

ضفاف موحلةٌ

أشلاء حديد غازٍ

قبعة الجندي تدورْ

عاصفة ٌ تذرو الرمل على التَيه المنشورِ

 على دولاب تمسكه الأرض براحتها

السعفةُ حبلى بالشِمس ِ

الصحراء تشق ّ مخابئها الناريةَ

 تبتلع الصخرَ الأسودَ

يطلع وردٌ في الصحراءْ.

وهنا أتوقف عند عبارة “دولابٍ تمسكهُ الارضُ براحتها”، فالدولاب يُكرِّسُ بلا شك حركة الدوران في القصيدة، ويرتبط بدائرة الافلاك والشمس والارض والاقدار بل والكون برمَّتهِ  of Life Wheel [9]، وهنا تُفيد الصورة رحلة الشاعرة في الكون وتغلغلها فيه وانفلاتها من دوائر  السيطرة وعواملها القبيحة  حيثُ تستحيل الحركة الدائرية الى لولبية جارفة وعنيفة لتبتلعَ أدوات القبح التي يُخلّفها العدوان: “مجداف صديء”، “بحرٌ تشربُهُ الاسماك”، “قبعة الجندي الغازي”، و”تيه” الامم المطحونة تحت رحى الطغاة؛ وقد تحيل القراءة على ثأر الأرض من الدولاب الذي أرهقها وأهلها بان تمسك به إمساك مقتدر لتوقف دورانه المعذِب ، وأما النخلةُ فهي رمز انساني قديم ويرتبط اسمُها بالانكليزية palmبالكف البشري وسعفها بالاصابع فهي في الانجيل رمز الانسان النبيل فعندما دخل السيد المسيح القدس استقبله الناس بالاحتفال ملوحين لهُ بسعف النخيل ومعلنين ايمانَهم بهِ لتُصبح السعفة جزءاً من قُدّاس يو الاحد[10]، ثمّ تطوّرت لتصبح رمز الانتصار والاقتداروالصبر والسعفة رمزٌ عراقيٌ قديم للشجرة المقدَّسة وهي عندما تحبلُ بالشمس هنا تكون قمة الشطحة الادبية لما للشمس من رمزية الزرع والتجدد والشمولية والاحتواء، اذن تُسقطُ الشاعرةُ خصوبةَ الالهام الشعري على الاشياء وهي في قمة الانتصار والصعود ومنها تولدُ الورودُ في الصحراء التي ترمز للحرية والانطلاق ودحر القيود التي ما تفتأ تحاصر الانسان. ولما كان الشعر “صلة جوَّانية يقيمها الانسان مع ذاتهِ قبل أن يؤسسها مع الخارج” كما يقولُ يوسف سامي اليوسف، فان الشعر والتصوُّف بشكل خاص انما “هو نزوع صوب الكمال في عالمٍ ناقصٍ ومنكوب بالمركوسين في النقص والخساسة السافلة”[11].

إن النص الذي ازدحمت مقاطعه باقتتال شديد ومتداخل بين القبح والجمال ظل يجاهد من اجل انتصار الحياة ولأن الذات الشاعرة ترفض تسليم متلقيها للمكابدة التي سيطرحها نصها وللعذابات التي احتدمت فيه فقد حصرت قصيدتها بين مطلع وامض بالرغم من عنفه ، ونهاية مفتوحة ، مطلع يشي بانتصار الحقيقة الصوفية الابدية :يمحو اللؤلؤ ما سطره الياقوت الاحمر…فاللؤلؤ عند الصوفي رمز لتسامي الغرائز وبهائها وتعاليها على المادة والنزوات والقبح ، هو رمز للعذرية والنقاء والطهر والبراءة كما يرمز للعمق لانه يتكون في اعماق البحار وهو بحقيقة تألقه الداخلية المشعة سينتصر على عوامل العنف الخارجية دما وغرائز جهنمية وحروبا لا تهدأ ،أما النهاية فمفتوحة على الحب المطلق حيث تتبادل الشاعرة مع الارض الحماية والامن ، تلك الأرض الكونية التي أشعلتهاصواريخ الطغاة ونيرانهم والتي كانت عبر دواوين الشاعرة العشرة واحدة من اشكاليات عذابها وحبها معا :

أستلقي تحت سرير الريح

فتخرجني الارض من الارض..

واخرجها من كأسي…

ترقبني عين الصياد وتقتنص الكاس…

اكتب بالخمرة فوق الاقداح ..

                أحبك ْ..!

فالقدح في مصطلحات الندامى هو القارورة الفارغة من الخمرة ، فان امتلات خمرة سميت كأسا حتى اذا استلب لصوص الانسانية الكاس سارعت الشاعرة المنتصرة لإرادة الحياة بما يفاجئ الصياد ليزيده كيدا إذ حضرت الكتابة رمزا وثوقيا للخلود واستمرارية الفعل في التاريخ حيث تتلاحم نشوة الخمرة بنشوة الابداع التي يؤكد العارفون وعلماء النفس انها ارقى أنواع التحقق الإنساني وان فرح الإبداع أرقى أنواع الفرح كذلك ، ولا يكتفي النص بذلك بل يجعل  مادة الكتابة هي الخمرة التي تحقق للصوفي النشوة الروحية المطلقة وللانسان الاعتيادي الهروب الذي يقاوم به رداءة  الزمن ، تتوجهما بالحب مكتوبا بوثوقية ختم نوراني يطرز بالفرح المتسامي رحلة العذاب إذ تمتلئ الاقداح بنور الخمرة واذ تتحد الذات الشاعرة بالساردة لتكتب اعتراف الحب  واي كتابة…!انها ارقى تجليات المعرفة الانسانية ومنتجتها معا ، والحب هنا بغياب حركة الكاف  في ( أحبك ْ ) ينفتح على كل اتجاه ليكون مطلقا وشموليا يحتضن الوجود والموجود لتندحر بذلك كل عوامل القبح والشر ولينتصر الجمال وتنهض ارادة الحياة حرة مبرأة من كل ظلم وقيد .

 وفي الختام لا بد من الإشارة الى أمرين مهمين …الأول  : إن كل نص يتسم بالثراء ويتشكل من طبقات عدة لابد أن يظل محتفظا ببعض أسراره وبرموز لا يبوح بمرموزاتها لقارئه مهما تمكن قارئه من أدواته المعرفية (12 ) لكن هذا النص ذاته يظل يومض عبر غلالاته التي تلف مقاصده بأكثر من دلالة :

مائدة الموت تدور

ادخل من كفيها

اخرج من برقعها

مائدة الخمر تديف الحلم الموغل بالغصة

والقابع بالاوصاب

بريش الحزن يحلق صبر المائدة الظمأى

اخرج يابسة من جوف الحوت

وادخل جذع التوت ِ

التفاحة تهوي يتلقفها الغربان

التفاحة تغدو كرة

يفتح نهر بابه …

ويغيبها

ترسم فوق الموج سحابة

وتنام على صدر الريح …                                                             

فهنا تغيم الدلالات لكنها لا تنبهم  فالحرب وكوارثها هي التي تحرك هذا المقطع لأنه مائدة موت ، خمرتها يمتزج فيها الحلم بالوجع وصبرها يحلق بريش الحزن وتظل المائدة ظمأى لأن ما تشربه ليس شراب ارتواء حين يكون المشروب دما .   

الامر الثاني ان هذه القصيدة قد لعبت باللغة لعبا حرالكنه ليس لعب جاك دريدا التفكيكي الذي يدور ويتحول الى ما لا نهاية لانه لعب يتقن قوانين اللعبة ويمتلك عنان هدفها فقد حررت اللعبة الكثير من المفردات من تراكماتها المعجمية والزمنية التي رانت عليها لتمنحها دلالات جديدة حرة لا يضيئها غير السياق الذي وضعت فيه وكان التحويل الابداعي للتناص مؤازرا لها في اللعبة ، فهذه المائدة مثلا ليست هي مائدة امرئ القيس وليست هي مائدة السورة القرآنية ولا هي مائدة الحكام والزعماء التي يخططون عليها  الحروب ويشعلون الحرث والنسل بل هي مائدة الشاعرة وقصيدتها التي ابدعتها تجربة فنية صهرت كما قلنا قبل صفحات كل تلك الموائد والنصوص لتشكل نصها الشعري الخاص بها فهي مائدة للخمر والوجد والحب والمسك والحرب والموت والحزن،  تدور في تجليات عدة تجعل منها مائدة محيرة وكثيفة وغريبة الدلالة في الان ذاته :

بريش الحزن يحلق صبر المائدة الظمأى

لقد لعبت الأفعال والألوان والضمائر والأضداد والأحجار الكريمة في النص لعبا التباسيا أثرى إمكانيات تأويله وفتح أبوابه على تعدد قراءته ، فمن الصوفي إلى السريالي الى الواقعي ثم يتداخل كل ذلك ليثوي في حضن الشعرية الدافئ الذي استطاع ان يبلور كل حركات القصيدة داخل اطار من التناغم والانسجام عبر تشكيلات مؤتلفة مرة  ومتناقضة أخرى و مفاجئة مرات فالخيط القرآني الأبيض الذي يشير إلى الفجر يتحول من الانفصال عن الأسود إلى الولوج بإدهاش في المسك ليصير الليل شاهدا وليس فضاء للعتمة :

خذني قبل ولوج الخيط الأبيض بالمسك..

كي يشهد ذاك الليل خلاصي ..  

الخاتمة :

وهكذا تصل الدراسة إلى نتيجة مفادها أن القصيدة سعت بإخلاص إلى مقارنة القبح حسب نظرية جوليا كرستيفا بالجمال الذي لخصه الفن بالسلام والحب والسعي نحو الأمن وتنمية عوامل الخصب وسيادة عوامل الإيجاب .

 

الهوامش والمصادر

*موقع الشاعرة الدكتورة بشرى البستاني على الانترنيت .

 


[1]   ابن قتيبة ،الشعر والشعراء  (بيروت:دار صادر ،مطبعة بريل ، 1902 )، 39 .

وقال في توجههِ الى قيصر مستنجداً اياهُ على بني أسد قاتلي أبيه قصيدتَه الرائية “سما بكَ شوقٌ” ؛ يُنظر امرؤ القيس: حياتُهُ-شعرُهُ (دمشق:دار كرم، 1957)، 44. وأيضاً محمد فريد أبو حديد، الملك الضليل امرؤ القيس(مصر: مكتبة المعارف،1944). 

[2] ابن عربي، لوازم الحب الالهي، تحقيق موفق فوزي الجبر (دمشق: دار معد ودار النمير،1998)، 54.

[3] Julia Kristeva, Powers of Horror: an Essay on Abjection, Trans by Leon S. Roudiez (New York: Columbia UP, 1982).

  [4]  أنظر سعاد الحكيم، المعجم الصوفي: الحكمةُ في حدود الكلمة (بيروت: دندرة، 1981)،649-651.

[5]     عبدالرحمن بدوي، شطحات الصوفية ( الكويت: مطبعة السالم،1978)،10-11

  [6]     بدوي، 12.

[7]    يوسف سامي اليوسف، مقدمة للنفَّري(دمشق:دار الينابيع،1997)،57.

[8] See Jean Chevalier and Alain Gheerbrant, Trans by John Buchanan-Brown, The Penguin Dictionary of Symbols (1969; London: Penguin Books, 1994), 383-384.

[9] هذا الموتيف  motifيتكرر ويتطور في سياق قصائد اليوت : “الرجال الجوَّف” والارض اليباب ومسرحيتهَ جريمة قتل في الكاثدرائية ، إن دولاب الحياة في حالة دوران مستمر، فالدنيا مكان الالم والزوال فلاشيءَ يبقى على حالهِ وكل مافيها مؤقت ومتغير متبدِّل، والدولاب دلالة التكرار والاعادة والملل وكذلك الافكار والمفاهيم، الا أن كينونة الاشياء قائمة على عقلانية وجودها، ولذا فهي موجودة، وعندما يستخدم اليوت الدولاب فانه يريدُ ايصال فكرة جُدُب الدنيا وعقمها وخاصةً مع غريزة القتل والتي يُمارسها الانسان بشن الحروب، وعلى عكس ماألفناه في رائعة الكاتب البريطاني جيوفري جوسر ،حكايات كانتربري حيثُ صور الربيع المرتبط بالولادة والخصب فان في العصر الحديث يفقدُ الربيع الخصوبة ومعانيهِ التقليدية كافة ليصبحَ رهينةَ القحط بسسب الخواء الروحي المرافق للحروب. ففي قصيدة “الرجال الجوَّف” يقولون: “هنا ندورُ حولَ شجرة التوت في صباحٍ باردٍ رطب” والتي تُعاد في الارض اليباب حيثُ مجموعة من الناس “ماضونَ في دائرةٍ كالحلَقة” التي تنتهي في هوة العدَم والملل وبتكرار العبارة ثلاث مرات يقول الرجال الجوَّف: “بهذهِ الطريقة تنتهي الدنيا”. اما في المسرحية أعلاه فيقول أحد القساوسةُ:”يعتقدُ الغبيُّ وهو غارقٌ في غبائهِ أنّ بمقدورِهِ التحكم  بدولاب الحياه وتوجيههِ الوجهة التي يريد” . للمزيد راجع:

Nidhahi Tiwari, Imagery and Symbolism in T.S.Eliot’s Poetry (New Delhi: Atlantic publishers & Distributors, 2001), 97.

[10] يُنظر:         

Michael Ferber, Dictionary of Literary Symbols, 2nd Edition (MA: Cambridge UP, 2007), 148-150.

[11]يوسف  سامي اليوسف، مقالات في الصوفية (دمشق:وزارة الثقافة،2007)،102.

12- حوار مع الشاعرة أجراه د. جلال جميل ، جريدة الاديب ،العدد 68 لعام 2005 .

أضف تعليق